الاثنين، 11 أبريل 2011

من فصاحة أهل عمان

كانت الجزيرة العربية المكان الجغرافي الذي تعارفه لغويو العربية حداً مكانياً لتقعيد اللغة العربية ضمن عصور الاحتجاج[1]، وقد اقتصروا على ست قبائل عربية - كانت تتمركز وسط هذه الجزيرة - وأخذوا عنها اللغة العربية، وهي : قريش، وقيس، وتميم، وأسد، -وهم أكثر من أخذ عنهم- ثم هذيل، وبعض كِنانة، وبعض الطائيين[2]، واستبعدوا القبائل الأخرى استبعاداً ظالما في حقيقته[3]، " فلم يؤخذ عن حضَريٍّ قطّ، ولا عن سكَّان البَرَاري ممن كان يسكنُ أطرافَ بلادِهم المجاورة لسائر الأمم الذين حولهم؛ فإنه لم يؤخذ لا مِنْ لَخْم، ولا من جذَام؛ لِمُجاوَرتهم أهل مصر والقِبْط؛ ولا من قُضاعة، وغَسَّان، وإياد؛ لمجاورتهم أهل الشام، وأكثرهم نصارى يقرؤون بالعبرانية؛ ولا من تغلب واليمن؛ فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونان؛ ولا من بكر لمجاورتهم للقبط والفرس؛ ولا من عبد القيس وأَزْد عُمان؛ لأنهم كانوا بالبحرين مُخالطين للهِند والفُرس؛ ولا من أهل اليمن لمخالطتهم للهند والحبشة؛ ولا من بني حنيفة وسكان اليمامة، ولا من ثقيف وأهل الطائف؛ لمخالطتهم تجّار اليمن المقيمين عندهم؛ ولا من حاضرة الحجاز؛ لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتدؤوا ينقلون لغةَ العرب قد خالطوا غيرهم من الأمم، وفسدت أَلسِنتهم"[4]، وهذا الاستبعاد كما يرى بعض الباحثين أنه " من حيث الاحتجاج النحوي، أما من حيث الدلالة فقد كان اللغويون ينصون على أن معنى كلمة ما هو كذا بلهجة أهل اليمن أو أهل عُمان، ومعنى ذلك أن النحو بوصفه قواعد ثابتة تقريباً فإنه ينهض على لهجات مؤتلفة لغوياً ضمن المكان الواحد للسان العرب، وهو الجزيرة العربية، أما اللغة ودلالاتها فيمكن أن يقع في تقعيدها تسمح، يسمح بتعدد الدلالات ما دامت في بنيتها الصرفية وتركيبها النحوي تخضع لنظام النحو والصرف، ولهذا عندما نص النحاة على استبعاد لغة لخم وجُذام وقُضاعة وغسّان وإياد، وعبد قيس وأزد عُمان وأهل اليمن من الاحتجاج النحو، فإنهم كانوا يقصدون الاستبعاد النحوي لا الدلالي، لأن الدلالة تحتمل التنوع، أما النحو فقواعد صارمة، التنوع فيها يتم بقواعد صارمة أيضاً، ولغة عُمان من حيث الدلالة عربية فصيحة "[5].
·       فصاحة أهل عُمان:
     رغم موقع عُمان الجغرافي ومجاورتها لبلاد الفرس إلا أنها تميزت بالفصاحة والبيان وكان هذا ملحظ عجب وتعجب واستغراب عند كثير من البلغاء والفصحاء، وقد أشار إلى ذلك الجاحظ (ت:255هـ)، كما نقل العوتبي عنه: " لربما سمعت من لا علم له يقول: ومن أين لأهل عُمان البيان؟ قال: وهل يعدون لبلدة واحدة من الخطباء والبلغاء ما يعدون لأهل عُمان؟ منهم مصقلة بن الرقبة: أخطب الناس قائما وجالسا، ومفردا ومناقشا، ومجيبا ومبتدئا، ثم ابنه من بعده كرب بن مصقلة، ولهما خطبتا العرب : العجوز في الجاهلية، والعذراء في الإسلام "[6].
     ونقل لنا الجاحظ في كتابه " البيان والتبيين" نصوصاً وقصصاً بيّن فيها فصاحة أهل عُمان وبيانهم، وذكر بعضاً من خطبائهم، من تلك النصوص والقصص:
1-      قول ابنُ الأعرابيّ أن معاوية بن أبي سفيان قال لصُحارِ بن عَيّاش العبديّ (وهو من أهل عُمان) : ما هذه البلاغةُ التي فيكم؟ قال: شيء تَجِيش به صدورُنا فتَقذفُه على ألسنتنا، فقال له رجل من عُرْض القَوم: يا أمير المؤمنين، هؤلاء بالبُسْر والرُّطَب، أبصرُ منهم بالخُطَب، فقال له صُحار: أجَلْ واللَّهِ، إنّا لنَعلم إنّ الرِّيح لَتُلْقِحُه، وإن البَرد ليَعقِدُه، وإن القمرَ ليَصْبِغُهُ، وإن الحَرّ ليُنْضِجهُ، وقال له معاوية: ما تعدُّون البلاَغَةَ فيكم؟ قال: الإيجاز، قال له معاويةُ: وما الإيجاز؟ قال صُحار: أن تُجيب فلا تبطئ، وتقولَ فلا تخطئ، فقال له معاوية: أو كذلك تقول يا صُحَار؟ قال صُحار: أقِلْني يا أمير المؤمنين، ألا تُبْطِئ ولا تُخْطئ[7].
2-       ويقول الجاحظ: " وشأن عبد القَيس عجَبٌ، وذلك أنهم بعد مُحارَبة إيادٍ تفرَّقوا فِرقَتين، ففرقةٌ وقَعتْ بعُمان وشقِّ عُمان، وهم خطباء العرب؛ وفرقةٌ وقعت إلى البَحْرَيْن وشِقِّ البحرَين، وهم من أشعر قَبيلٍ في العرب، ولم يكونوا كذلك حين كانوا في سُرَّة البادية وفي مَعدِن الفَصاحة، وهذا عَجَب"[8].
3-      وخرج الحجّاج إلى القاوسان فإذا هو بأعرابيّ في زرع فقال له: ممَّن أنت؟ فقال: من أهل عُمان، قال: فمن أيِّ القبائل؟ قال: من الأزْد، قال: كيف عِلمُك بالزرع؟ قال: إنِّي لأعلم من ذلك علماً، قال: فأيُّ الزرع خيرٌ؟ قال: ما غَلُظَ قصبُه، واعتمّ نبتُه، وعظُمت حَبَّته، وطالت سنبُلتُه، قال: فأيُّ العِنب خير؟ قال: ما غَلُظ عموده، واخضرّ عوده، وعَظُم عُنقوده، قال: فما خير التمر؟ قال: ما غَلُظَ لحاؤه، ودقَّ نواه، ورقّ سَحاه[9].
4-      وقال كعبٌ الأشْقَرِيٌّ لعمر بن عبد العزيز:
إنْ كنتَ تحفظُ ما يَليكَ فإنما ... عُمَّالُ أرضِكَ بالبلادِ ذِئابُ
لن يستجيبُوا لِلَّذِي تدعُو لهُ ... حتَّى تُجلَّدَ بالسُّيوفِ رِقابُ
بأَكُفِّ مُنْصلِتينِ أَهلِ بصائرٍ ... في وقْعهنَّ مَزاجِرٌ وعِقابُ
هلاَّ قُريش ذُكِّرتْ بثُغُورِها ... حزمٌ وأحْلامٌ هُناكَ رِغابُ
لوْلاَ قرَيْشٌ نَصْرُهَا ودِفاعُها ... أُلْفِيتُ مُنْقَطِعاً بيَ الأَسْبابُ
فلما سمع هذا الشعر قال: لمن هذا؟ قالوا: لرجل من أزْد عُمان، يقال له كعب الأشقريّ قال: ما كنت أظنُّ أهل عُمان يقولون مثل هذا الشعر[10].
5-      وهناك نص آخر يبين فصاحة أهل عُمان ذكره القالي في أماليه، حيث يقول: حدثنا أبو بكر بن دريد، حدثنا أبو حاتم عن الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء قال: لقيتُ أعرابيّاً بمكة فقلت: مِمَّنْ أنت؟ قال: أسديّ. قلت: ومِن أيّهم؟ قال نمريّ، قلت: من أيِّ البلاد؟ قال: مِن عُمان، قلت: فأَنَّى لك هذه الفَصاحة؟ قال: إنَّا سكَنَّا أرضاً لا نَسْمَعُ فيها ناجخة التَّيار، قلت: صِفْ لي أرضَك، قال: سِيفٌ أفيح، وفضاء ضَحْضَحْ، وجَبل صَرْدَح، ورمل أَصْبَح، قلت: فما مالُك؟ قال: النخل، قلت: فأينَ أنتَ من الإبل؟ قال: إن النَّخل حِمْلُها غذاء، وسَعفها ضياء، وجِذْعها بناء، وكَرَبها صلاء، وليفها رِشاء، وخوصها وِعاء، وقَرْوُها إناء[11].
   قال القالي: الناجخة: الصوت، والتيار: الموج، والسِّيف: شاطئ البحر، وأفيح: واسع، والفضاء الواسع من الأرض، والضَّحْضَح: الصحراء، والصَّرْدح: الصلب، والأصبح: الذي يعلو بياضه حُمرة، والرشاء: الحبل، والقَرْو: وعاء من جذع النخل ينبذ فيه[12].
·       من خطباء أهل عُمان وفصحائهم :
        عُرفت عُمان بأنها بلد الفصاحة والبيان، وقد اشتهر كثير من خطبائها وفصحائها، فمن هؤلاء الخطباء -على سبيل المثال لا الحصر- المشهورين:
       صَعصعة بن صُوحان، وزَيد بن صُوحان،وسَيْحان بن صوحان، و صُحار بن عَيَّاشٍ، ومَصْقَلَة بن رَقَبة، له خطبة العجوز في الجاهلية، وكَرِب بن مَصْقَلة له خطبة العذراء في الإسلام، ورقَبة بن مَصْقَلة، وكعب الأشقري، يقول الجاحظ: " ومن خُطَبائهم المشهورين: صَعصعة بن صُوحان، وزَيد بن صُوحان، وسَيْحان بن صوحان، ومنهم صُحار بن عَيَّاشٍ، وصحارٌ من شيعة عثمان، وبنو صوحانَ من شيعة عليّ، ومنهم مَصْقَلَة بن رَقَبة، ورقَبة بن مَصْقَلة، وكَرِب بن رَقَبة"[13].
      ومن أهل عُمان، كعب بن سور قاضي عمر بن الخطاب على البصرة- وهو أول من قدم على البصرة بعد تمصيرها[14].
     ومنهم أبو الشعثاء جابر بن زيد الأزدي[15] رحمه الله تعالى- وكان له شهرة واسعة، ويكفي قول حبر الأمة ابن عباس فيه: " لو نزل أهل البصرة عند قول جابر بن زيد لأوسعهم عما في كتاب الله علما"[16]، وكان أيضا غاية في العلم والورع، فهو فقه، وسياسي محنك، وهو المؤسس الحقيقي، للمذهب الإباضي.
        ومنهم الربيع بن حبيب -رحمه الله- وهو من فراهيد انتقل إلى البصرة ونسب إليها، ورجع إلى عُمان آخر عمره، وكان يضرب به المثل في العلم[17].
       ومنهم أبو حمزة الشاري المختار بن عوف، له الخطب المشهورة المأثورة، روى بعضها مالك بن انس، وقال عند روايته: خطبنا أبو حمزة المختار بن عوف خطبة، حيرت المبصر وردت المرتاب[18].
      ومن أهل عُمان، الخليل بن أحمد الفراهيدي، وكان من أهل ودام الباطنة، خرج إلى البصرة وأقام بها، ونسب إليها، وهو صاحب كتاب "العين" الذي هو إمام الكتب في اللغة، وما سبقه إلى تأليف مثله أحد، وإليه يتحاكم أهل العلم والأدب فيما يختلفون فيه من اللغة، فيرضون به ويسلمون له، وهو صاحب النحو، وإليه ينسب، وهو أول من بوبه، وأوضحه، ورتبه، وشرحه، وهو صاحب العروض والناس تبع له، وله فضيلة السبق إليه، والتقدم فيه[19].
       ومنهم أبو بكر محمد بن أبي الحسن بن دريد الأزدي، وهو صاحب كتاب "الجمهرة"، وله مصنفات كتب عدة، وهو الخطيب المذكور، والشاعر المشهور، والفصيح الذي يقف عند كلامه البلغاء، ويعجز عن آدابه الأدباء، ويستعير منه الفصحاء، ويستعين بكلامه الخطباء، وهو خطيب في شعره، ومصقع في خطبه، وقدوة في أدبه، وحكيم في نثره، ومجيد في شعره، لا زيادة عليه في فنون العلوم والأدب[20].
     ومنهم العباس المبرد، صاحب كتاب الكامل كما يقول السالمي[21]، إلا أن هناك من ينفي كون المبرد عُمانياً، وليس هنا محل التحقق.
      فهؤلاء الخطباء والفصحاء الذين ذكرتهم اشتهروا في عُمان وخارجها، وهناك الكثير منهم من ينافسهم في البلاغة والفصاحة بل ويفوق بعض من ذكرت ، ولكن عيبهم أنهم لم يخرجوا خارج محيطهم وحدودهم، ولعل ظروف ذلك الوقت لم تسمح لهم، فاشتهروا في بلدهم وعند ذويهم وأهليهم، ولا يخفى على أحد أن للمكان دوراً بارزاً في إبراز العالم وشهرته، فابن حزم مثلاً يرى أن مأساته في المكان لأنه أندلسي، وموطن الشهرة والعلم المشرق لا المغرب الإسلامي[22]، فيقول:
أنا الشمس في جوِّ العلوم منيرةٌ   ***  ولكــن عيـبي أنّ مطـلعيَ الغـربُ
ولو أنني من جانب الشرق طالع ***   لجدّ على ما ضاع من ذكريَ النهبُ
ولعل هذا من أهم الأسباب التي منعتهم من الشهرة الخارجية.
***
كتبه: بدر بن خميس السعيدي


[1] الدراسات اللغوية في عُمان في القرنيين الرابع والخامس الهجريين: العوتبي انموذجاً، حسن خميس الملخ، جامعة آل البيت، الأردن، ورقة بحثيية.
[2] المزهر في علوم اللغة العربية وأنواعها، عبدالرحمن بن أبي بكر السيوطي، المكتبة العصرية، بيروت، (ط: 1430هـ - 2009م)، 1/ 173.
[3] لهجة تميم وأثرها في العربية الموحدة، الدكتور غالب فاضل المطلبي، الجمهورية العراقية وزارة الثقافة والفنون، دار الحرية للطباعة ، بغداد،(ط: 1978)، 34.
[4] المزهر، 1/173.
[5] الدراسات اللغوية في عُمان في القرنيين الرابع والخامس الهجريين: العوتبي أنموذجاً.
[6] الإبانة في اللغة العربية، سلمة بن مسلم العوتبي الصحاري، تحقيق، عبد الكريم خليفة وآخرون،الناشر، وزارة التراث القومي والثقافة، مسقط سلطنة عُمان، (ط :1، 1420 هـ - 1999م)، 1/ 34. ، وينظر المفكرة موزعة في عدة مواضع في البيان والتبيين، لعمرو بن بحر الجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون، دار الفكر، بيروت، 1/ 97، 347 - 348.
[7] البيان والتبيين، 1/ 31.
[8]  مرجع سابق،  1/31.
[9] مرجع سابق، 1/166.
[10] مرجع سابق، 1/ 309.
[11]  نقله السيوطي في المزهر، 1/ 46.
[12]  مرجع سابق.
[13] البيان والتبيين، 1/ 31.
[14] تحفة الأعيان، 1/ 16.
[15] مرجع سابق1/ 16.
[16] الطبقات الكبرى، لمحمد بن سعد بن منيع الهاشمي، دار بيروت للطباعة والنشر،(ط: 1405هـ - 1985م)، 7/179. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، للحافظ أبي نعيم أحمد بن عبدالله الأصفهاني، ط: دار الفكر، 3/85.
[17] تحفة الأعيان، 1/ 16.
[18] مرجع سابق1/ 16.
[19] الإبانة 1/36-37.
[20] مرجع سابق، 1/ 37.
[21] تحفة الأعيان، 1/ 17.
[22] الدراسات اللغوية في عُمان، ص398.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق